حمل النبى ، بعد المناداة به فى مطلع الدعوة بالمدينة
" بسورة من مثله " ( البقرة 23 ) ، على السكوت
نهائيا عنه ، و التحول الى اسلوب آخر . و كانت الهجرة
النهائية الى يثرب ، فصارت " مدينة " الرسول
. فكانت هذه الهجرة ثورة و انقلابا فى الرسول و الرسالة
، فى الدعوة و الدين .
يقول القرآن المكى على لسان النبى : " ما كنت بدعا
من الرسل " ( الاحقاف 9 ) . و نراه فى القرآن المدنى
" بدعا من الرسل " . فقد كانت الهجرة الى المدينة
هجرة فى النبوة الى السياسة : " هنا يبدأ الدور السياسى
... و هذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه اليه نبى أو
رسول . فقد كان عيسى ، و كان موسى ، و كان من سبقهما من
الانبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من
طريق الجدل و من طريق المعجزة ... فاما محمد فقد أراد
الله أن يتم نشر الاسلام و انتصار كلمة الحق على يديه
، و أن يكون الرسول و السياسى و المجاهد و الفاتح "
1
فالنبى صاحب دعوة دينية ، و ليس رجل السياسة ، و لا
زعيم دولة . فهو يحمل كلام الله الى الناس ، لا سيف الاسلام
للجهاد و الفتح :
كانت الدعوة بمكة للايمان بالله و اليوم الآخر ! فصارت
بالمدينة الى الايمان باليوم الحاضر . كان يقول : "
و لا تمدن عينبك الى ما متعنا به أزواجا منهم ، و لا تحزن
عليهم " ( الحجر 88 ) ، فصار يقول : " اليوم
أحل لكم الطيبات ... يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات
ما أحل لكم " ( المائدة 5 و 87 ، قابل البقرة 168
) . كانت الدعوة بمكة دينية ، فصارت بالمدينة دنيوية أيضا
، حتى امتزجت شؤون الروح بشجون الجسد ، و أحوال الدين
بأمور الدنيا ، و حاجات الدنيا بميزات الآخرة ، و انقلب
الدين الى دولة .
منذ مطلع الدعوة بالمدينة جاءت شرعة الجهاد القرآنية
: " كتب عليكم القتال و هو كره لكم " ( البقرة
216 ) . فتحولت الرسالة الدينية الى رسالة دولية ، و صار
الاسلام دنيا و دولة معا . و صار محمد " نبى الملحمة
" بعد ان كان " نبى المرحمة " . و انتشر
الاسلام بالجهاد للدفاع أولا عن وجوده و كيانه ، ثم للهجوم
بالسيف على سائر الجبهات ، فنجحت الدعوة . فالرسالة ما
بين مكة و المدينة قامت على الفشل بمكة ، و على النجاح
بالمدينة . و ذلك بسبب فرض الجهاد فى الدين ، و القتال
على الايمان .
|