فالقرآن المكى كله يمشى على هذا المبدأ . و لا يرد
على القوة بمثلها ، لا على عجز ، بل عن مبدإ . و عند شدة
الاضطهاد الأول حمل جماعته على الهجرة الى الحبشة . و
عند شدة المحنة و الأذى عليه هاجر شخصيا الى الطائف .
أخيرا دبرالهجرة الكبرى الى يثرب .
و مثله و مثل جماعته فى مكة صورة " عباد الرحمان
الذين يمشون على الأرض هونا ، و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا
: سلاما ! و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما ... و اجعلنا
للمتقين إماما " ( الفرقان 63 – 74 ) . عباد الرحمان
، يسميهم بالمدينة " الراسخين فى العلم " أى
النصارى من بنى اسرائيل . فهم مثال الدعوة السمحاء حتى
فى الفتنة و الاضطهاد : " ادفع بالتى هى أحسن السيئة
، نحن أعلم بما يصغون " ( المؤمنون 96 ) ، "
و لا تستوى الحسنة و لا السيئة : ادفع بالتى هى أحسن ،
فإذا الذى بينك و بينه عداوة كأنه ولى حميم " ( فصلت
34 ) . هذا المبدأ صورة قرآنية لمبدإ الانجيل : "
من ضربك على خدك الأيمن ، فأدر له الآخر " فاللطف
أفعل فى الخصم نفسه من العنف .
لكن الدعوة بمبدإ " الحكمة و الموعظة الحسنة "
فشل فى الرسالة كلها بمكة . فدبر الرسول لهجرة الكبرى
الى يثرب للفرار من القتل و الاستشهاد ، و تدبير أمر الدعوة
بمبدأ آخر ، و اسلوب آخر .
كان اسلوب الدعوة بمكة اعجاز القرآن فى النظم و البيان
، فتحداهم " بسورة مثله " ( يونس 38 ) ، "
بعشر سور مثله " ( هود 13 ) ، " بمثل هذا القرآن
" ( الاسراء 88 ) " بحديثمثله " ( الطور
34 ) .
لكن هذا التحدى بالأعجاز جاء بعد عجز النبى عن "
آية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) ، و قرر :
" و ما منع الناس ان يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة
الأولين " ( الكهف 55 ) أى المعجزة الحسية . فصرح
ان الناس لم يقبلوا منه التحدى بإعجاز القرآن . و ظلوا
الى آخر العهد بمكة يتحدونه " بسنة الأولين "
لأنها من الله " سلطان مبين " على صحة الدعوة
و صدق النبوة .
و النتيجة الحاسمة ان التحدى بإعجاز القرآن قد فشل فى
مكة ، و لم يحمل أهلها على الايمان بصحة الدعوة ، و لا
على تصديق النبوة .
فقد فشلت الرسالة بمكة فى مبدئها " بالحكمة و الموعظة
الحسنة " ، و فى اسلوب دعوتها بأعجاز القرآن فى النظم
و البيان . و على أهل الأعجاز أن لا ينسوا هذا الفشل الذريع
الذى |