لكن تلك الظاهرة الغريبة فى تاريخ الأديان تنبع ،
بحسب ابن خلدون ، من واقع الأمة العربية فى الحجاز . قال
: " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة
. و السبب فى ذلك أنهم لخلق التوحش الذى فيهم ، أصعب الأمم
انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة ، و بعد الهمه و
المنافسة فى الرئاسة " 1 .
و هذه الثنائية ، فى دمج الدين بالدولة ، أصيلة فى المجتمع
العربى ، لذلك انتهى اليها الاسلام فى تأسيسه : "
فالديانة فى المجتمع العربى البدائى كان يعبر عنها ، كما
كانت تنظم ، بطريقة سياسية ، لعدم وجود شكل آخر للعبير
عنها و تنظيمها . و بالعكس كانت الديانة وحدها هى التى
تعد أساس كل حكومة عند العرب الذين كان كل تصور للسلطة
السياسية غريبا عنهم " . 2
و الشهادات من السيرة النبوية على تحويل النبوة إلى
إمارة كثيرة . فقد رأى الأنصار و المعارضون فى المدينة
، منذ مطلع العهد بالمدينة ، فى محمد ، ملكا أكثر منه
نبيا .
فهذا زعيم المعارضة فى المدينة ، عبد الله بن أبى
العوفى " رأى أن محمدا قد استلبه الملك " 3 . و شاع بين الناس قول ابن أبى . فقال سعد ، أحد سادة
المدينة ، للرسول : " يا رسول الله ارفق به ، فوالله
لقد جاءنا الله بك ، و إنا لننظم له الخرز لنتوجه . فوالله
إنه ليرى أن قد سلبته ملكا 4 ! " هذا رأى الأنصار
.
و تلك كانت نظرة اليهود الى محمد . لما أسلم عبد الله
بن سلام ، قال له اليهود : " ما تكون النبوة فى العرب
، و لكن صاحبك ملك " ! 5 و ظل هذا رأى اليهود
حتى النهاية . ففى غزوة خيبر رأت صفية بنت حيى بن أخطب
فى منامها ان قمرا وقع فى حجرها . فعرضت رؤياها على زوجها
. فقال : " ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمد
! فلطم وجهها لطمة خضر عينيها منها " . 6
|